هندسة ماهرة لتغيير جذري
تولى أويدا كازوؤ منصب محافظ بنك اليابان في أبريل/نيسان عام 2023. وعلى الرغم من أنه من خلفية أكاديمية، إلا أنه عمل لفترة طويلة في مجلس سياسة البنك وكان ملما بشكل جيد بالجوانب العملية للسياسة النقدية. كان سلفه في المنصب كورودا هاروهيكو قد طبق برنامجا طويل الأمد للتيسير النقدي ”من بُعد مختلف“، ولكن هذا المزيج من التيسير الكمي وأسعار الفائدة السلبية كان مترافقا مع إجراءات لتوجيه أسعار الفائدة طويلة الأجل في اليابان، ما عقّد الأمور على أويدا لتولي المسؤولية. ومع ذلك، وفقا لأحد مسؤولي بنك اليابان المتقاعدين، كان يُنظر إليه على أنه الشخص الأمثل لمهمة تفكيك ”برنامج كورودا“.
ألمح أويدا لدى توليه منصب محافظ البنك المركزي في البداية إلى تبني نهج هادئ في تغيير السياسة، مشيرا إلى أنه سيتوخى الحذر في إعادة سياسة البنك المركزي إلى الوضع الطبيعي. اشترى بنك اليابان في عهد كورودا كميات ضخمة من سندات الحكومة اليابانية، وأي تحرك متسرع لرفع أسعار الفائدة التي يتحكم بها البنك سيؤدي إلى انهيار قيمتها، وبالتالي ارتفاع أسعار الفائدة في جميع المجالات.
وأحد الأمثلة على هذا الحذر كان الكلمة التي ألقاها أويدا أمام منظمة نايغاي جوسيي تشوساكاي البحثية في مايو/أيار عام 2023، حيث أشار إلى أن ”تكلفة إعاقة التطورات الناشئة نحو تحقيق هدف استقرار الأسعار عند 2 في المائة – والذي بات أخيرا يلوح في الأفق – من خلال إجراء تغييرات سياسية متسرعة، من المحتمل أن تكون باهظة للغاية“. ويعتقد محلل من مركز أبحاث كبير، أن هذا يعني أن أويدا يفضل قبول حدوث تضخم على التحرك بسرعة كبيرة لتفكيك سياسة كورودا والانتهاء بالفشل. وربما شعر المحافظ الجديد أنه سيكون كافيا وضع حد لأسعار الفائدة السلبية أثناء وجوده في منصبه عوضا عن تطبيع سياسة اليابان النقدية بسرعة.
ولكن بمجرد وصوله إلى المنصب، تحرك أويدا بسرعة لرفع إرشادات البنك بشأن أسعار الفائدة طويلة الأجل تدريجيا، ممهدا الطريق لتطبيع كامل للموقف النقدي لليابان. كما بدأ اعتبارا من يناير/كانون الثاني عام 2024، في بعث رسائل أقوى حول إلغاء بنك اليابان النهائي لسياسة الفائدة السلبية والسياسات المرتبطة بها. وفي فبراير/شباط، ألقى نائب المحافظ أوتشيدا شينئيتشي كلمة في اجتماع بمحافظة نارا للجهات الفاعلة المالية والتجارية، حيث أوضح مخطط البنك المحتمل لتصحيح سياسته للتيسير النقدي الهائل. وكان البنك المركزي مستعدا في مارس/آذار لإنهاء سياسته لأسعار الفائدة السلبية، بعد أخذ الاستعدادات المناسبة.
تحدثت مع أحد مديري الصناديق الخارجية الذي أخبرني أن أويدا أظهر ”مهارة مذهلة“ في تقليص برنامج التيسير النقدي الهائل لبنك اليابان دون حدوث فوضى غير ضرورية، وذلك في أقل من عام على توليه المنصب. يبدو في الواقع أن الوجه الحمائمي الذي أظهره أويدا بعد توليه المنصب كان مجرد واجهة لتهدئة الأسواق. إن رفع بنك اليابان إرشاداته بشأن أسعار الفائدة طويلة الأجل يرقى بالفعل إلى زيادة فعلية لأسعار الفائدة، لكن تصوير أويدا لهذه الخطوة كتعديل فني سمح له بتهيئة السوق ككل للابتعاد النهائي عن برنامج البنك طويل الأمد للتيسير النقدي الهائل. ولعله من المبكر اعتبار هذا الأمر نجاحا نهائيا، لكن أويدا قدم حتى مارس/آذار عام 2024 – على الأقل – سجلا ناجحا.
التدخل السياسي
لا بد لنا من الاعتراف بأن خطوات البنك المركزي على الساحة السياسية منذ ذلك الحين لم تكن واثقة إلى هذا الحد. فقد انخفضت قيمة الين مقابل الدولار الأمريكي في أسواق الصرف الأجنبي، وظهر بنك اليابان كمن يؤدي دورا تسببت خياراته الخاطئة في تسريع انهيار العملة اليابانية. ويمكن للمرء الإشارة بشكل خاص إلى المؤتمر الصحفي الذي عقده المحافظ أويدا في 26 أبريل/نيسان، بعد اجتماع السياسة النقدية للبنك في اليوم نفسه. جاءت قرارات البنك كما كانت متوقعة في الأساس، حيث حافظ على الوضع الراهن في أسعار الفائدة قصيرة الأجل وشراء سندات الحكومة اليابانية. ولكن كما أشار مسؤول كبير في بنك ياباني رئيسي، فإن هذا يعني أن ”بنك اليابان لم يفعل سوى الإدلاء بتصريحات حذرة حول زيادة الأسعار، ما أعطى الضوء الأخضر فعليا لانخفاض قيمة الين“.
وعلى وجه الخصوص، كان لتصريح أويدا بأن المنحى الهبوطي لقيمة الين لم يتسبب بعد في ارتفاع مستمر في أسعار المستهلكين قد عزز من عمليات بيع الين في أسواق الصرف الأجنبي، ما أدى إلى انخفاض قيمة الين في أحد الأوقات من 29 أبريل/نيسان إلى مستوى يزيد عن 160 ينا مقابل الدولار قبل أن يرتفع مجددا إلى نطاق ضمن 150 ينا. ولم يكن أمام الحكومة اليابانية خيار سوى القيام بتدخل كبير في السوق لدعم الين. ووفقا لبيانات وزارة المالية للفترة من 26 أبريل/نيسان إلى 29 مايو/أيار، بلغ إجمالي التدخل أكثر من 9.79 تريليون ين.
الجدير بالذكر أن أسواق الصرف الأجنبي هي ضمن نطاق مسؤوليات وزارة المالية، ولا ينبغي لبنك اليابان أن يهتم بسعر الصرف كجزء من تركيزه على استقرار الأسعار، ويُفترض أن التدخل في أسواق العملات هو خارج نطاق صلاحياته. ولكن بات جليا أن هذا التوزيع للمسؤوليات ليس أكثر من مجرد إجراء شكلي، وسيتدخل بنك اليابان عندما تُلاحظ اضطرابات شديدة في أسعار الصرف الأجنبي.
كما تجدر الإشارة إلى أن الحكومة كانت قلقة بالفعل من تحركات أويدا التي قد تسرع من انخفاض قيمة الين، نظرا لإمكانية تأثير ذلك على ميزانيات الأسر. ففي 7 مايو/أيار، اجتمع رئيس الوزراء كيشيدا فوميئو مع المحافظ أويدا. وعلى إثر ذلك مباشرة، أخبر أويدا الصحفيين المجتمعين أنه أكد مع رئيس الوزراء على ضرورة مراقبة قيمة الين بعناية عند تحديد سياسة بنك اليابان المستقبلية.
وفقا لمدير الصندوق الخارجي المذكور أعلاه، كان من المؤكد أن أويدا قد تلقى أوامر في الاجتماع مع كيشيدا، وأصبح بنك اليابان الآن ملزما بالاهتمام بأسعار الصرف الأجنبي فوق كل شيء آخر في تحديد خطوات سياسته القادمة. وبالفعل فقد ورد في النسخة المعدلة للحكومة من التصميم الكبير وخطة العمل لنموذج جديد من الرأسمالية التي تم الإعلان عنها في 7 يونيو/حزيران، أن الحكومة وبنك اليابان سيعملان جنبا إلى جنب بشكل وثيق لتحقيق زيادات سنوية مستدامة بنسبة 2 في المائة في أسعار المستهلكين. وبالنظر إلى تأثير انخفاض قيمة الين على الأسعار منذ بداية العام، ذكرت الخطة أنه سيكون من الضروري الاهتمام بقيمة الين في أسواق الصرف الأجنبي.
الحذر من ضربات قوية للاقتصاد
أحد العوامل المزعجة على نحو خاص والتي يتعين على بنك اليابان التعامل معها هو حقيقة أن قرارات السياسة النقدية للبنك لا يمكن تطبيقها كما في السابق للتعامل مع الارتفاع المفرط في قيمة الين. في الماضي، لم يكن هناك مجال لمزيد من التيسير النقدي، ما يعني أن أي إشارات لمزيد من الجهود في هذا الاتجاه كانت تفسر على أنها ليست أكثر من مجرد مسرحية، وهذا يعني أنه رغم تأثيرها الضئيل في الحد من صعود الين، إلا أنها على الأقل لم تؤثر على الاقتصاد الحقيقي.
أما الآن، فالأمور مختلفة. فالإجراءات النقدية المتخذة استجابة لانخفاض قيمة الين من المحتمل أن تؤدي إلى تشديد السياسة النقدية في جميع النواحي الاقتصادية، ما يلحق ضربات حقيقية للاقتصاد. وكما أخبرني مسؤول آخر سابق في بنك اليابان، فإن أي ارتفاع في أسعار الفائدة استجابة لانخفاض قيمة الين سيكون له تأثير خطير على الاقتصاد الحقيقي، ما يزيد من خطر العودة إلى دوامة الانكماش.
ولجعل الأمور أكثر صعوبة بالنسبة لأويدا، قال المسؤول المحلي في البنك الذي تحدثت معه، إنه حتى خطوة رفع أسعار الفائدة قد لا يكون لها تأثير يذكر من حيث وقف تراجع قيمة الين. فقد تبنت اليابان نظام صرف عائم يسمح بتغير الأسعار بحرية، والانخفاض الحالي في قيمة عملتها (ولا سيما مقابل الدولار الأمريكي) يرجع إلى حد كبير إلى الفجوة بين أسعار الفائدة في الولايات المتحدة واليابان. ولذلك طالما أن رأس المال يتدفق نحو الدولار، حيث يمكن أن يُتوقع عوائد أعلى، فلن يرى الين أي استقرار في قيمته مقابل تلك العملة إلا إذا تحركت السلطات اليابانية لجسر الهوة في أسعار الفائدة. يتجاوز سعر الفائدة الفعلي الحالي لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي نسبة 5 في المائة، ما يعني أنه يتعين على بنك اليابان الاقتراب من هذا المستوى ليحدث تأثيرا.
وبطبيعة الحال لن يحتمل الاقتصاد الياباني أبدا أسعار فائدة مرتفعة إلى هذا الحد. فبالنظر إلى الديون العامة الهائلة في الحسابات الرسمية لليابان، يمكن أن يؤدي أي رفع جدي في أسعار الفائدة إلى هبوط كارثي في سوق السندات الحكومية اليابانية. وباختصار – كما أشار المراقبون – فإن أسواق الصرف الأجنبي تدرك جيدا أن بنك اليابان ليس لديه الكثير ليفعله فيما يتعلق برفع أسعار الفائدة. ومن الممكن فقط زيادة أسعار الفائدة في عدد قليل من المرات بهدف تجنب المزيد من انخفاض قيمة الين، ولكن لن تكون أي منها كافية لسد الفجوة بشكل جوهري بين أسعار الفائدة في اليابان والولايات المتحدة. والنتيجة هي أننا يمكن أن نتوقع انخفاضات تدريجية إضافية في قيمة الين.
بالنظر إلى الوراء حتى أوائل السبعينات، عندما تحولت اليابان إلى نظام الصرف العائم، نجد أن البلاد لم تختر قط رفع أسعار الفائدة كوسيلة لمنع انخفاض قيمة عملتها. ورد أن أويدا خلال فترة عضويته في مجلس سياسة بنك اليابان، قد قال ”أود رفع أسعار الفائدة بشكل جدي لمرة واحدة فقط كأداة لمكافحة التضخم“. الآن، وبعد ما يقرب من ربع قرن من تلك النقطة في مسيرته المهنية، نجده في منصب جديد كمحافظ للبنك المركزي، حيث قد يضطر إلى فعل ذلك كوسيلة لدعم الين.
قرر البنك الياباني في اجتماعه بشأن السياسة النقدية في 13-14 يونيو/حزيران، خفض مشترياته من السندات الحكومية اليابانية ”لضمان تشكيل أسعار الفائدة طويلة الأجل بحرية أكبر في الأسواق المالية“. ويشير هذا إلى الاستعداد لقبول مستوى معين من زيادة أسعار الفائدة.
ولكن هناك شيء واحد فقط يمكن للحكومة اليابانية وبنك اليابان فعله لتجنب المزيد من انخفاض قيمة الين ألا وهو: الأمل في أن يهدأ التضخم في الولايات المتحدة، وأن يتحرك مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بسرعة لخفض أسعار الفائدة. أصدرت لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية في 12 يونيو/حزيران تقريرا يتوقع خفضا واحدا إضافيا في أسعار الفائدة خلال العام، بعد أن كان من المتوقع في بداية عام 2024 تخفيضها ثلاث مرات. ويبدو من غير المرجح أن تُجسر الفجوة في أسعار الفائدة بين اليابان والولايات المتحدة في أي وقت قريب، ويبقى استقرار الأسعار في الولايات المتحدة عاملا مهما للاقتصاد الياباني في المستقبل.