تاريخ الجزر المتنازع عليها
تقع شبه جزيرة شيريتوكو، وهي أحد مواقع التراث العالمي المسجلة لدى اليونسكو، إلى الشمال الشرقي من هوكايدو وتنتشر فيها العديد من القمم البركانية، كما تقع بلدة راوسو عند سفح سلسلة جبال شيريتوكو. واكي كيميو (83 عامًا)، هو أحد المقيمين هنا، وهو من مواليد كوناشيري، إحدى الجزر التي تشكل الأقاليم الشمالية التي تسيطر عليها روسيا وتطالب بها اليابان. يخبرنا واكي كيف تضاءل في السنوات الأخيرة أمله في العودة إلى وطنه، الجزيرة التي تسميها روسيا الآن كوناشير، فيقول: ”بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، لم يتم إحراز أي تقدم على الإطلاق في المفاوضات لاستعادة الأقاليم الشمالية. أشعر أنني لم أعد قادراً على رؤية الضوء في نهاية النفق“.
واكي هو الرئيس السابق لـ تشيشيما رينمي (رابطة سكان جزر تشيشيما وهابوماي)، وهي منظمة تضم المقيمين السابقين في الأقاليم الشمالية. في 7 فبراير/ شباط، وهو ”يوم الأقاليم الشمالية“ الذي حددته اليابان رسميًا، انضم واكي إلى 750 مشاركًا آخر في اجتماع سنوي أقيم في نيمورو بمحافظة هوكايدو للمطالبة باستعادة الجزر.
لقد وقع الاختيار على يوم 7 فبراير/ شباط ليكون يومًا للأقاليم الشمالية لأنه كان تاريخ توقيع معاهدة التجارة والملاحة بين اليابان وروسيا في شيمودا بمحافظة شيزوكا عام 1855. ولقد حددت معاهدة شيمودا الحدود بين اليابان وروسيا داخل جزر الكوريل، ورسمت الحدود بين إيتوروفو (التي تديرها روسيا باسم إيتوروب) وأروب، مع عدم تحديد وضع الجهة اليسرى. أدى هذا بشكل أساسي إلى ترسيخ واقع أن الأقاليم الشمالية تتكون من جزر إيتوروفو وكوناشيري وشيكوتان وهابوماي (وهي في الواقع مجموعة من الجزر الصغيرة) التي تمتد من شمال شرق هوكايدو باتجاه شبه جزيرة كامتشاتكا.
وفقًا لمسؤولي نيمورو، فقد انخفض الإقبال على حضور يوم الأقاليم الشمالية هذا العام بمقدار 100 شخص مقارنة بالعام الماضي، وقد علت وجوه الحاضرين نظرة جادة مهيبة بسبب توقف المفاوضات بين اليابان وروسيا.
أما في طوكيو، فقد تحدث رئيس الوزراء كيشيدا فوميئو أيضًا في مؤتمر عُقد في 7 فبراير/شباط مطالبًا بعودة الأقاليم الشمالية. وفي حين أكد رئيس الوزراء على تصميم الحكومة على حل هذه القضية الإقليمية من خلال العمل على التوصل إلى معاهدة سلام رسمية، فقد اقتصرت مجهوداته على تسهيل استئناف التبادلات بين سكان الجزر وزيارة مواقع المقابر داخل الأقاليم الشمالية، وذلك فيما يتعلق بالتدابير الملموسة المدرجة على جدول الأعمال الفوري للحكومة.
الموقف الرسمي للحكومة اليابانية هو أن جزر الأقاليم الشمالية ”هي أرض متأصلة في اليابان، ولم تسيطر عليها أي دولة أجنبية قط“. ووفقاً لوزارة الخارجية اليابانية، فقد تم احتلال الأقاليم الشمالية بشكل غير قانوني من قبل الاتحاد السوفييتي (وروسيا الآن) بعد أن قبلت اليابان إعلان بوتسدام وأوضحت نيتها في الاستسلام، مما مثّل انتهاكاً صارخاً لاتفاقية الحياد السوفيتية اليابانية التي كانت لا تزال سارية في أغسطس/ آب 1945. ومع قبول استسلام اليابان، واصل الاتحاد السوفييتي هجومه ضد اليابان واحتل جميع الجزر الشمالية الأربع في الفترة من 28 أغسطس/ آب 1945 إلى 5 سبتمبر/ أيلول 1945.
غضب روسيا من العقوبات
حتى بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في جنوب أوكرانيا في عام 2014، استأنفت إدارة رئيس الوزراء شينزو آبي بسرعة الحوار مع روسيا من أجل إعطاء الأولوية للمفاوضات بشأن الأقاليم الشمالية ومعاهدة السلام. في ذلك الوقت، قوبل هذا الموقف بمعارضة من الولايات المتحدة والدول الأوروبية. لكن الأمر اختلف تماماً بعد الغزو الروسي واسع النطاق لأوكرانيا في فبراير/ شباط 2022، حيث تحالف رئيس الوزراء كيشيدا والحكومة اليابانية بشكل حاسم مع نظرائهم الغربيين لفرض عقوبات اقتصادية.
فيما يتعلق بالدبلوماسية مع روسيا، قبل قمة مجموعة السبع في هيروشيما في مايو/أيار 2023، أوضح رئيس الوزراء كيشيدا موقفه في مقال نُشر له في مجلة ”غايكو“ المتخصصة في الشؤون الدبلوماسية في مارس/آذار من ذلك العام: ”راودني شعور قوي بخطورة الأزمة وبأن ما يجري في أوكرانيا اليوم قد يحدث في شرق آسيا في المستقبل. ولهذا السبب اتخذت قراري في العام الماضي بالرد بكل حزم على العدوان الروسي من خلال فرض عقوبات صارمة على روسيا وتقديم دعم قوي لأوكرانيا“. وخلفية ذلك هي المخاوف في اليابان من أنه إذا لم تُقابَل تصرفات روسيا بردع قوي من أوروبا، فإن أنشطة الصين وكوريا الشمالية سوف تكتسب زخماً في شرق آسيا.
في مارس/آذار 2022، مباشرة بعد إعلان اليابان أنها ستفرض عقوبات على روسيا، أوقفت موسكو المفاوضات بشأن معاهدة السلام وقضية النزاع الإقليمي، مما أدى أيضًا إلى وضع حد لبرنامج السفر بدون تأشيرة إلى الجزر للزوار اليابانيين وسفر السكان الروس المقيمين في الجزر إلى اليابان والذي كان قائمًا منذ عام 1992. بالتالي مع وصول الوضع في أوكرانيا إلى طريق مسدود، ومع عدم وجود حوار رسمي بين الحكومتين اليابانية والروسية، تبددت الآمال في التوصل إلى معاهدة سلام وحل القضايا الإقليمية العالقة في المستقبل القريب.
الفرق بين سياسة آبي وكيشيدا تجاه الجزر
وقد أبدى المقيمون السابقون في الأقاليم الشمالية تفهمهم لقرار اليابان بفرض عقوبات على روسيا، إلا أنهم أعربوا عن خيبة أملهم إزاء الفجوة الكبيرة في الحماس بين القيادة اليابانية الحالية وإدارة آبي شينزو 2012-2020، التي انتهجت دبلوماسية تطلعية مع روسيا، شملت عقد اجتماعات قمة متكررة مع الرئيس فلاديمير بوتين.
وفي مايو/ أيار 2016، اتفق آبي وبوتين على اتباع ”نهج جديد“ لحل قضية الأقاليم الشمالية وإبرام معاهدة سلام في اجتماع قمة في سوتشي بروسيا. ثم، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، في سنغافورة، اتفق الزعيمان على تسريع المفاوضات على أساس الإعلان الياباني السوفييتي المشترك لعام 1956 الذي تم التوقيع عليه بدلاً من معاهدة السلام وأدى إلى إنهاء حالة الحرب بين البلدين وتطبيع العلاقات الدبلوماسية. كما ألزم الإعلان المشترك كلا الجانبين بمواصلة المفاوضات الرامية إلى إبرام معاهدة سلام ترتكز على التطلع إلى قيام الاتحاد السوفيتي في نهاية المطاف بتسليم هابوماي وشيكوتان إلى اليابان.
وفقًا لمذكرات شينزو آبي، اقترح الرئيس بوتين في سبتمبر/أيلول 2018 قبل اجتماع سنغافورة أن تعمل طوكيو وموسكو سوياً من أجل إبرام معاهدة سلام بحلول نهاية العام ”دون شروط مسبقة“، وقرر آبي ”الخوض في كل شيء“ من خلال إلزام نفسه بالعودة إلى صيغة الإعلان المشترك، إذا لزم الأمر، لضمان موافقة موسكو على إبرام معاهدة سلام. كما كانت استراتيجيته تتمثل في الاستفادة من علاقته الشخصية مع بوتين لتعزيز الأنشطة الاقتصادية المشتركة مع روسيا مع السعي إلى إعادة إحياء المفاوضات بشأن الأقاليم الشمالية. وفي مذكراته، قال آبي ”إذا كنا جادين في رغبتنا في استعادة الأقاليم الشمالية، فيجب علينا أولاً تقديم اقتراح يحفز مصالح الجانب الآخر أيضًا“.
وبرغم ما أعرب عنه المقيمون السابقون من قلق إزاء انهيار إطار إعادة ”الجزر الأربع“، إلا أن نهج ”الجزيرتين“ وما تم تحقيقه في المفاوضات من تقدم ظاهري قد شجعهم كثيراً. واستناداً إلى عدة مناقشات مع رئيس الوزراء السابق، يتذكر واكي أن ”تصميم آبي على التعامل مع قضية الأقاليم الشمالية كان قوياً للغاية“.
ومع ذلك، فإن المفاوضات مع موسكو كانت قد توقفت بالفعل حتى قبل الغزو الروسي لأوكرانيا. ففي ديسمبر/ كانون الأول 2018، أعرب الرئيس بوتين عن قلقه بشأن إمكانية قيام الولايات المتحدة، كدولة حليفة لليابان، بنشر جيشها في الأقاليم الشمالية في حالة قيام روسيا بإعادة الجزر. ثم أصر الجانب الروسي على أن التقدم سوف يرتكز على الشرط المسبق المتمثل في اعتراف اليابان بأن روسيا استحوذت بشكل شرعي على الأقاليم الشمالية كنتيجة للحرب العالمية الثانية. ثم، في يوليو/ تموز 2020، تم تعديل الدستور الروسي ليحظر على وجه التحديد التنازل عن الجزر. وهكذا، فحتى قبل غزو أوكرانيا، وصف المنتقدون دبلوماسية إدارة آبي في التعامل مع روسيا بأنها ”فشل“ لم يسفر إلا عن قيام اليابان وحدها بتقديم التنازلات دون تحقيق أي إنجازات ملموسة. وفي ضوء هذه التطورات والانتقادات، تجنب خلفاء آبي، كرئيس الوزراء سوغا يوشيهيدي وكيشيدا فوميئو، اتخاذ موقف استباقي بشأن المفاوضات مع روسيا حول هذه القضايا.
وضع العلم وصليب الكنيسة لفرض السيطرة
جدير بالذكر أن روسيا واصلت أعمالها الاستفزازية فيما يتعلق بالأقاليم الشمالية بعد غزوها لأوكرانيا. وفي مايو/ أيار 2022، أعلنت الحكومة الروسية حظر دخول رئيس الوزراء كيشيدا وغيره من المسؤولين الحكوميين، وكذلك الناشطين اليابانيين المشاركين في حملة استعادة الجزر. وفي أبريل/ نيسان 2023، صنفت موسكو منظمة تشيشيما رينمي للمقيمين السابقين على أنها ”منظمة غير مرغوب فيها“، وحظرت أنشطتها في روسيا.
ثم في صيف عام 2023، أعادت الحكومة الروسية التأكيد على ”سيطرتها الفعالة“ على الجزر من خلال رفع العلم الروسي على منارة في جزيرة كايغارا على بعد 3.7 كيلومتر فقط من كيب نوسابو في أقصى الطرف الشرقي لشبه جزيرة نيمورو، يمكن رؤية المنارة التي بنتها اليابان بالعين المجردة. كما أعادت روسيا طلاء سطح جدار المنارة بألوان مختلفة فضلاً عن وضع صليب الكنيسة الأرثوذكسية الروسية للتأكيد على سيطرتها.
كما علّق الجانب الروسي أيضًا أجزاء من الاتفاقيات الحكومية الدولية المبرمة في التسعينيات والتي سمحت للمقيمين السابقين بزيارة الجزر بدون تأشيرة. ونتيجة لتصنيف تشيشيما رينمي على أنها ”منظمة غير مرغوب فيها“، قامت الحكومة الروسية أيضًا بوضع العقبات أمام الأشخاص الذين يأملون في الاعتناء بمقابر عائلاتهم في الجزر، على الرغم مما هو معلن عنه من السماح بمثل هذه الزيارات كجزء من التدابير الإنسانية التي لا تزال قائمة. وقد قام العديد من سكان الجزر بتوديع ذويهم الوداع الأخير من البحر، حيث شبّكوا أيديهم في صلاة أدّوها من على ظهور القوارب قبالة الشاطئ.
جارتان رغم كل الخلافات
اعتبارًا من مارس/ آذار 2023، كان متوسط عمر المقيمين السابقين في الأقاليم الشمالية 88.5 عامًا. كما انخفض إجمالي عددهم على مستوى اليابان إلى 5135 مقيمًا سابقًا، أي حوالي 30% مما كان عليه في نهاية الحرب العالمية الثانية. لقد انتشرت نظرة تشاؤمية بين السكان السابقين بشأن ما إذا كانوا سيعيشون لرؤية اليوم الذي تتم فيه إعادة الجزر إلى اليابان.
تسونوكا ياسوجي (87 عامًا) ناشط في المجتمع المحلي وهو من مواليد جزيرة يوري في هابوميس. يقول تسونوكا، رئيس فرع نيمورو في رابطة تشيشيما رينمي، إنه بالطبع غاضب من روسيا، ولكنه أيضًا يشعر بخيبة أمل لأن الحكومة اليابانية لم تجد طريقة لاستئناف المفاوضات. ومع ذلك، يشير تسونوكا أيضًا إلى أن ”الغضب لن يوصلنا إلى أي مكان. وسوف تكون المفاوضات الإقليمية صعبة ما لم تتحسن العلاقات بين اليابان وروسيا، لذلك أريد من الجانبين الامتناع عن الأعمال التي من شأنها أن تستفز الطرف الآخر“.
ويعتقد البروفيسور إيواشيتا أكيهيرو من مركز البحوث السلافية الأوراسية بجامعة هوكايدو أنه ”في نهاية المطاف سيتم وقف إطلاق النار بين روسيا وأوكرانيا وستكون هذه فرصة لاستئناف المفاوضات على نطاق واسع“. كما يشير البروفيسور إيواشيتا إلى أنه رغم أن اليابان وروسيا على خلاف مع بعضهما البعض في مختلف مجالات العلاقات الثنائية، إلا أن هناك ”حاجة ملحة لإجراء مناقشات حول الاستجابة للكوارث والسلامة البحرية ومصائد الأسماك، وبشأن الرؤى المستقبلية لمنطقة شمال شرق آسيا ككل“. وفي إشارة إلى أن اليابان وروسيا جارتان، يؤكد البروفيسور إيواشيتا أنه ليس لدى البلدين خيار آخر سوى إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة، حيث يقول: ”لذلك، يجب علينا أن نستعد من الآن للفرصة القادمة التي تطرح نفسها لتحسين العلاقات. وعلى الرغم من وجود حواجز كبيرة أمام إعادة إحياء المفاوضات بشأن الأقاليم الشمالية في الآونة الأخيرة، إلا أنني أعتقد أنه سيكون من الممكن استئناف التبادلات وزيارات القبور في المستقبل“.