أخبار
واقعية كيشيدا وأزمة فصائل الحزب الليبرالي الديمقراطي
سمعة ليبرالية
استجاب رئيس الوزراء كيشيدا فوميئو في يناير/كانون الثاني عام 2024 للفضيحة المتنامية المتعلقة بأخذ عمولات فيما يتصل بحفلات جمع تبرعات لفصائل الحزب الليبرالي الديمقراطي، من خلال اتخاذ قرار بحل فصيل كوتشيكاي الذي يترأسه، مسدلا الستار على تاريخ أقدم فصيل رئيسي في الحزب الليبرالي الديمقراطي، والذي أسسه إيكيدا هاياتو في عام 1957.
يتمتع فصيل كوتشيكاي بسمعة ليبرالية بشكل عام. وقد غيّر مؤسسه إيكيدا وجهات نظره السياسية بناء على تجربته في احتجاجات أنبو عام 1960 ضد المعاهدة الأمنية اليابانية الأمريكية. والمعروف عن إيكيدا وعده بمضاعفة الدخل الياباني، وبعد أن أصبح رئيسا للوزراء في عام 1960 وضع سياسات لتعزيز المستوى العالي من النمو الاقتصادي الذي بدأ بالفعل في أواخر الخمسينات. تجنب إيكيدا التعامل المباشر مع القضايا التي كانت بالفعل سببا في حدوث انقسام إيديولوجي بين اليسار واليمين، وسعى إلى إعادة توحيد الرأي العام من خلال انتهاج وسطية اقتصادية.
وبات النجاح في هذه المهمة جزءا أصيلا مميزا لفصيل كوتشيكاي. وبعد وفاة إيكيدا، التزم زعماء الفصيل بمبدأ يوشيدا في تقييد حجم قوات الدفاع وتركيز الجهود على الاقتصاد، كما تبناه يوشيدا شيغيرو الذي قاد اليابان بعد فترة وجيزة من الحرب العالمية الثانية. وهذا ما جعله مختلفا عن فصيل سيواكاي – المعروف أيضا باسم فصيل آبي على اسم رئيس الوزراء الراحل آبي شينزو الذي ترأسه حتى وفاته – والذي فضّل تعديل الدستور وبناء علاقات أمنية أقوى مع الولايات المتحدة.
كيشيدا هو رئيس الوزراء الخامس من فصيل كوتشيكاي. وبعد وقت قصير من وصوله إلى السلطة، بنى سياساته وفق تقاليد الفصيل، حيث اتخذ موقفا مرنا وادعى ”القدرة على الاستماع“. ويبدو أنه كان يريد إظهار اختلافه عن رئيسي الوزراء السابقين له، آبي وسوغا يوشيهيدي، اللذين دفعا السياسات قدما عبر إظهار قيادة قوية، ولكنهما تعرضا للانتقادات باعتبارهما متشددين. وقد تأثرت سياسته المعلنة المتمثلة في خلق حلقة حميدة من النمو وإعادة التوزيع عبر اتباع ”رأسمالية جديدة“ بشدة بخطة إيكيدا لمضاعفة الدخل.
أما على صعيد السياسات الخارجية، فقد سعى كيشيدا منذ البداية إلى التخلص من الميول الليبرالية لفصيل كوتشيكاي. ففي كلمة له بمناسبة العام الجديد لعام 2022، قال إنه سينفذ ”دبلوماسية واقعية للعصر الجديد“، استنادا إلى ثلاثة أركان هي التأكيد على القيم العالمية، والعمل على حل المشكلات العالمية، وحماية حياة المواطنين وأساليب عيشهم.
أدى غزو روسيا لأوكرانيا في الشهر التالي إلى تعزيز الموقف الدبلوماسي لكيشيدا. وقد أظهر منذ اندلاع الحرب دعما قويا لأوكرانيا، وعزز العقوبات الاقتصادية ضد روسيا بما يتماشى مع توجهات القوى الغربية الأخرى. ثم مع تزايد التوترات في مضيق تايوان، اتخذ سلسلة من القرارات المهمة، من بينها تعديل استراتيجية الأمن القومي ووثيقتين أمنيتين أخريين، وزيادة كبيرة في الإنفاق الدفاعي. وحقق كيشيدا في وقت قصير تحولا كبيرا في سياسة الدفاع اليابانية كان من شأنه أن يؤدي إلى انقسام الرأي العام لو حدث قبل عقد من الزمان، وقد كان الوضع الدولي المتوترة أحد العوامل المساعدة.
واقعية شاملة
كثيرا ما يستخدم كيشيدا كلمة ”واقعية (غينجيتسو شوغي)“ عند تبرير سياسات تختلف عن الصورة التقليدية لفصيل كوتشيكاي. على سبيل المثال، في فبراير/شباط من عام 2023، قال عن فصيل كوتشيكاي ”غالبا ما يُطلق عليه وصف مجموعة ليبرالية، لكن في جوهره يسعى لواقعية شاملة“ (كما ورد في نيكّي في 27 فبراير/شباط عام 2023).
استجاب سياسيو كوتشيكاي لرغبات الجمهور في ذلك الوقت، مطبقين سياسات تستهدف النمو الاقتصادي والتعاون الدولي بما يتكيف مع واقع الأوضاع. يبدو أن كيشيدا يرى نفسه ضمن هذا التقليد، معتمدا سياسات عملية تلبي احتياجات بيئة أمنية هي الأشد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
ومن المؤكد أنه كان هناك تيار غير ظاهر من التفكير الواقعي بين رؤساء الوزراء السابقين من فصيل كوتشيكاي. شهد عام 1979 اندلاع الثورة الإيرانية في يناير/كانون الثاني وبداية الغزو السوفيتي لأفغانستان في ديسمبر/كانون الأول، وكان رد رئيس الوزراء أوهيرا ماسايوشي بتموضع اليابان بثبات كـ”عضو في العالم الحر“. في السابق خلال سبعينات القرن الماضي، كانت دبلوماسية البلاد تتميز بطابعها ”متعدد الاتجاهات“، مع توسيع العلاقات الدبلوماسية مع الكتلة الشيوعية. ولكن أوهيرا لم يرغب في إضفاء شرعية على العدوان السوفيتي، وعزز العقوبات من خلال لجنة التنسيق لمراقبة الصادرات متعددة الأطراف التابعة للكتلة الغربية، بينما بدأ في تقديم المساعدات الاستراتيجية لباكستان وتركيا وتايلاند، كدول مجاورة لمناطق النزاع.
ومع الانتقال إلى ما أُطلق عليه ”الحرب الباردة الجديدة“، كان أوهيرا من فصيل كوتشيكاي ”الليبرالي“ هو الذي أعاد تشكيل الدبلوماسية اليابانية لتلبية الواقع الدولي الجديد، وليس سلفه في رئاسة الوزراء فوكودا تاكيو من فصيل سيواكاي الأكثر تشددا.
وقد انعكس هذا الانفصال بين الصورة والواقع مؤخرا في المواقف تجاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التي تبناها آبي شينزو، الذي حاول بناء علاقة ثقة من أجل تحقيق عودة الأراضي الشمالية، أما كيشيدا فقد دعا إلى اتخاذ موقف حازم ضد روسيا حتى عندما كان وزيرا للخارجية في ظل قيادة آبي. ومقارنة برؤساء الوزراء من فصيل سيواكاي الذين يتمسكون بإيديولوجية معينة ويستخدمونها لدفع السياسة قدما، يمكن القول إن رؤساء الوزراء من فصيل كوتشيكاي يتميزون بتكيفهم المرن للسياسة مع الظروف.
فرصة لمزيد من التغيير؟
عندما يتحدث كيشيدا عن الواقعية، فيتعين على المرء أن يتذكر أيضا الجانب المكيافيلي عنده، وهو الجانب الضروري للخروج منتصرا في الصراعات على السلطة داخل الحزب. وإلى جانب وصف ”الليبرالي“ الذي اشتهر به كوتشيكاي، يعرف الفصيل أيضا بالقادة الذين كانوا من بين أبرز خبراء السياسة في الحزب، لكنهم كانوا غير فعّالين في الصراعات على السلطة، مثل مايو شيغيسابورو ومييازاوا كيئيتشي وكاتو كوئيتشي.
وبالمقابل، تغلب كيشيدا على المنافسة الشرسة ليفوز بانتخابات قيادة الحزب الديمقراطي الليبرالي في سبتمبر/أيلول عام 2021 ليصبح رئيسا للوزراء. ولكن في بداية إدارة كيشيدا، كان كوتشيكاي هو رابع أكبر فصيل في الحزب بعد الفصائل التي كان يقودها آبي وأسو تارو وموتيغي توشيميتسو (كان يترأسه سابقا تاكيشيتا واتارو، الذي وافته المنية في وقت سابق من سبتمبر/أيلول)، ما أدى إلى قاعدة سلطة هشة. وقد استلزم هذا احترام آراء سيواكاي أكبر الفصائل، والتي تدعو إلى توسيع القدرات الدفاعية، فيما يتعلق بتنفيذ السياسة الدبلوماسية والأمنية.
وبهذا المعنى، كان قرار حل كوتشيكاي يعني تدمير قاعدته الخاصة. بنى كيشيدا – على عكس آبي، الذي لم يكن حتى قائدا لفصيل سيواكاي عندما أصبح رئيسا للوزراء – مسيرته المهنية باعتباره ”ولي العهد“ لفصيل كوتشيكاي وظل قائدا للفصيل حتى أثناء خدمته في منصب رئيس الوزراء. وبعد أن موضع نفسه ضمن السياسة الحزبية التقليدية، رفض الآن الفصيل الذي وفّر له الشرعية.
أثار قرار كيشيدا ضجة كبيرة، وأعلن سيواكاي وفصائل أخرى أيضا عن حل أنفسها. وبينما تعاني حكومة كيشيدا حاليا من تراجع في نسبة التأييد الشعبي، أدى حل فصيل كوتشيكاي بدوره إلى فقدان الضغط اليميني من سيواكاي، وقد يكون هذا فرصة لرئيس الوزراء لوضع بصمته الفردية على السياسة الخارجية.
يجب أن يكون الفكر السياسي السليم مدعّما بكل من الفكر الواقعي والمثالية، حيث إن الواقعية من دون مثالية ينتهي الأمر بها بتأكيد الوضع الراهن فقط. واصلت دبلوماسية كيشيدا في العديد من الجوانب السير على نهج آبي، استنادا إلى استراتيجية كبرى لاستعادة توازن القوة بين اليابان والصين في مواجهة تنامي القوة العسكرية الصينية في العقد الثاني من القرن الحالي.
أجرى كيشيدا بنشاط زيارات دولية، ولكن رؤيته الدبلوماسية المستقلة لا تزال غير واضحة. وبعد أن أتم التحول من صورة فصيل كوتشيكاي السابقة، هل يمكنه أن يحقق تطورا رئيسيا آخر؟ الآن هي لحظة الحقيقة لإدارة كيشيدا.