الاقتصاد
من المستفيد الأكبر من توطين صناعة أشباه الموصلات في اليابان.. شركة TSMC التايوانية العملاقة أم قطاع الصناعة الياباني؟
أصبحت اليابان قبلة لمصنّعي أشباه الموصلات التايوانية. ففي فبراير/ شباط الماضي، أعلنت شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات، عملاق صناعة الرقائق في العالم، عن نيتها بناء مصنع ثانٍ مجاور لمصنعها الأول في كوماموتو رغم أن أشهراً لا تزال تفصلنا عن موعد بدء تشغيله. وفي الوقت نفسه، كشفت شركة تايوانية أخرى لتصنيع الرقائق عن خططها لإنشاء مصنع في محافظة مياغي.
وفي إطار الدعاية الترويجية لهذه التحركات، ركزت الشركات على الفائدة التي ستعود على اليابان بفضل عمليات التوسع التي تقوم بها الشركات، في وقت تأمل فيه اليابان أن تعود لتبوّء مكانتها السابقة في مجال صناعة أشباه الموصلات. لكن صانعي الرقائق التايوانيين لم يأتوا إلى هنا لتعزيز الاقتصاد الياباني. وإذا كان أصحاب المصلحة اليابانيون راغبين في تحقيق أقصى استفادة من هذه المصانع الجديدة (المدعومة بشكل كبير من قِبَل الحكومة اليابانية)، فيتعين عليهم أن يفهموا ما الذي يحفز الاستثمار.
استغلال مبكر لنجاح متوقع
في حديثه خلال افتتاح أول منشأة إنتاج يابانية تابعة لشركة TSMC في 24 فبراير/ شباط (ومقرها كيكويو، بمحافظة كوماموتو)، أشار مؤسس الشركة موريس تشانغ إلى المحادثة التي أجراها قبل 56 عامًا مع موريتا أكيو، الشريك المؤسس لشركة سوني، عندما زار تشانغ اليابان لأول مرة كنائب رئيس شركة تكساس إنسترومنتس.
ولد تشانغ في مقاطعة تشجيانغ في الصين، وهاجر إلى الولايات المتحدة حيث بنى مسيرة مهنية متميزة في شركة تكساس إنسترومنتس TI الرائدة في تطوير وتطبيق الدوائر المتكاملة. وفي عام 1968، جاء إلى اليابان كرئيس لأعمال أشباه الموصلات العالمية في شركة TI بغرض إطلاق شركة يابانية تابعة بالشراكة مع سوني. وفي تلك المناسبة، أشاد موريتا بالإنتاجية العالية للمصانع اليابانية وتوقع أن تفاجأ شركة TI بإنتاجيتها في اليابان. مما أثار إعجاب تشانغ، الذي أشرف لاحقًا على افتتاح مصانع TI في هاتوغايا (محافظة سايتاما) وفي أماكن أخرى.
وبحلول منتصف الثمانينيات، سيطرت اليابان على سوق الرقائق العالمية. في ذلك الوقت تقريبًا، قامت حكومة جمهورية الصين بتعيين تشانغ للمساعدة في تطوير صناعة أشباه الموصلات في تايوان. ولعل ما شجّع تشانغ على إطلاق شركة TSMC في عام 1987 هو اقتناعه بوجود عدة أوجه تشابه بين اليابان وتايوان من حيث الثقافة والموارد البشرية.
ريادة عالمية
لكن صناعة أشباه الموصلات التايوانية اتخذت مسارا مختلفا. تم إنشاء TSMC كشركة متخصصة في سباكة الرقائق بموجب عقد مع الشركات التي صممتها. وعلى هذا النحو، كانت الشركة رائدة في نموذج المسبك المتخصص الذي ترسخ في السنوات الأخيرة. اليوم، تعد المسابك مسؤولة عن حوالي 25% من إنتاج الرقائق العالمي، وفي عام 2023، استحوذت TSMC على حصة 59% من سوق سباكة أشباه الموصلات العالمي (أساس القيمة)، وذلك وفقًا لشركة أبحاث السوق التايوانية TrendForce. ما يعنيه هذا هو أن TSMC توفر حوالي 15% من الرقائق الدقيقة في العالم.
يصل إجمالي حصة تايوان في سوق المسابك العالمية إلى 67% (2023) عندما نضيف إنتاج شركات مثل شركة Lianhua للإلكترونيات (UMC) وشركة Power Crystal لصناعة أشباه الموصلات (PSMC)، التي حذت حذو TSMC. في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، أعلنت PSMC عن خطط للتعاون مع شركةSBI Holdings اليابانية لبناء مصنع في أوهيرا بمحافظة مياغي. وتأمل أن يبدأ الإنتاج بحلول عام 2027.
بالنسبة للمسابك المتخصصة، تعود القدرة التنافسية إلى إنتاجية منشآت تصنيع أشباه الموصلات. وقد ساهم هذا في تعزيز نقاط القوة التي تتمتع بها تايوان، تماماً كما توقع تشانغ. وعلى الرغم من أن شركة TSMC تقوم بتصنيع بعض رقائقها الأقل تقدما في مصانع في نانجينغ وأماكن أخرى، إلا أن أكثر من 90% من طاقتها الإنتاجية لا تزال تتركز في تايوان.
لكن TSMC عززت توسعها الخارجي في السنوات الثلاث أو الأربع الماضية. ففي مايو/ أيار 2020، أعلنت الشركة عن اختيارها لأريزونا كموقع لعمليات التصنيع المتقدمة. وقد تم الكشف عن الخطط المتعلقة بكل من كوماموتو ودريسدن في عامي 2021 و2023 على التوالي. فما الذي حفّز هذا التحول نحو الإنتاج الخارجي؟
الصراع التكنولوجي بين الولايات المتحدة والصين
يتلخص أكبر عاملين هنا في الارتفاع العالمي في تدابير الحماية التي تغذيها التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين والمخاوف بشأن ”النواقص الخمس“ في تايوان.
لقد أدى النزاع التجاري في مجال التكنولوجيا الفائقة الذي اندلع بين الولايات المتحدة والصين في ربيع عام 2018 إلى زيادة نزعة حماية الإنتاج المحلي في مجال أشباه الموصلات. وبعد الاستفادة من إزالة التعريفات الجمركية في جميع أنحاء العالم، واجهت صناعة أشباه الموصلات مجموعة كبيرة من حواجز الاستيراد الجديدة وقيود التصدير، مما دفع تشانغ إلى إعلان أن العولمة والتجارة الحرة ”شبه ميتة“ في قطاع الرقائق الدقيقة. استناداً إلى الأمن الاقتصادي، بدأت حكومات الاقتصادات الصناعية الرائدة في تقديم إعانات دعم سخية وإعفاءات ضريبية لتشجيع إنتاج الرقائق محلياً، والتنافس مع بعضها البعض لجذب شركات أشباه الموصلات مثل TSMC.
قامت TSMC ببناء نموذج أعمالها على الإنتاج المحلي منخفض التكلفة، بالإضافة إلى إمكانية شحن أشباه الموصلات الصغيرة والخفيفة إلى أي مكان تقريبا من تايوان، حتى عن طريق الشحن الجوي، دون المساس بالأرباح. لكن النزاع بين الولايات المتحدة والصين قوّض أسس نموذج الأعمال هذا. علاوة على ذلك، وبالتزامن مع ارتفاع تكلفة البناء إلى نحو تريليون ين ياباني لكل مصنع في السنوات الأخيرة، أصبح من المنطقي اقتصاديا الاستفادة من إعانات الدعم الضخمة التي تقدمها الولايات المتحدة واليابان وأوروبا.
عقبات في طريق الإنتاج
العامل الرئيسي الآخر الذي يدفع شركة TSMC لتغيير استراتيجيتها هو القلق بشأن ”النواقص الخمس“ التي تهدد صناعة أشباه الموصلات في تايوان، حيث تحتاج مصانع الرقائق إلى إمدادات وفيرة وموثوقة من الطاقة الكهربائية والمياه، فضلا عن الأراضي والعمالة والمواهب عالية المستوى. وعلى الرغم من أن حكومة تايوان قد تنكر ذلك، إلا أن القائمين على الصناعة لديهم مخاوف حقيقية بشأن هذه الموارد الخمسة جميعها.
شهدت تايوان انقطاع التيار الكهربائي على نطاق واسع مرتين في عام 2021 ومرة واحدة في عام 2022، في وقت كانت فيه مصانع أشباه الموصلات في البلاد تعمل بكامل طاقتها وسط نقص عالمي في الرقائق. ولطالما دعا الحزب التقدمي الديمقراطي الذي تتزعمه الرئيسة تساي إنغ ون إلى التخلص التدريجي من الطاقة النووية، وفي يناير/ كانون الثاني 2017، بعد وقت قصير من تولي تساي منصبها، تم إقرار قانون ينص على تشغيل جميع محطات الطاقة النووية الثلاث في البلاد، بما في ذلك المحطة العاملة حاليا، والتي من المقرر إخراجها من الخدمة بحلول عام 2025. وتهدف الخطة إلى تعويض العجز بالطاقة المتجددة، وخاصة الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، لكن قادة الصناعة يشعرون بالقلق من أن الاعتماد على مصادر الطاقة المتغيرة هذه سيجعل شبكة الكهرباء أقل موثوقية.
تستخدم مصانع أشباه الموصلات كميات كبيرة من المياه، وفي عام 2020، شهدت تايوان أسوأ موجة جفاف منذ 57 عاماً، (الحس البيئي يجعل بناء سدود جديدة فكرة لا تحظى بشعبية كبيرة على الصعيد السياسي). كما أن الصناعة تعاني أيضا بسبب عدم توافر الأراضي المناسبة وارتفاع تكلفتها في هذه الدولة التي هي عبارة عن جزيرة جبلية. علاوة على ذلك، ومع تراجع معدل الخصوبة في تايوان الذي يقترب من 1.0% (واحد من أدنى المعدلات في العالم)، فإن مشكلة نقص العمالة تلوح في الأفق أيضا.
لقد ربط بعض المراقبين هذا التوسع بسياسة الأمن القومي في تايوان، مفترضين أن تايبيه تستخدم صناعة أشباه الموصلات في البلاد ”كدرع سيليكون“ ضد العدوان الصيني. وفي حين أنه من الصحيح أن حكومة جمهورية الصين هي أكبر مساهم منفرد في شركة TSMC، إلا أنها تسيطر على 6% فقط من الإجمالي وليست في وضع يسمح لها بالتحكم في المستثمرين المؤسسيين الذين يشكلون الأغلبية الساحقة. TSMC هي شركة مدرجة تبلغ قيمتها السوقية 700 مليار دولار، ولن يؤيد مساهموها أبدًا استراتيجية إدارة تركز على الأمن القومي بدلاً من قيمة الشركة.
العلاقة القوية بين سوني وأبل وTSMC
بالإضافة إلى الاعتبارات العامة الموضحة أعلاه، كان لدى TSMC أسباب محددة لبناء مصنع كوماموتو.
وفي حديثه خلال حدث أقيم في تايبيه في ديسمبر/كانون الأول 2022، أخبر الرئيس التنفيذي سي سي وي قادة الصناعة أن TSMC كانت بصدد بناء مصنع في كيكويو ”لمساعدة أحد عملائها“، والذي تصادف أنه مورد ”لعميل TSMC الأكثر أهمية“. وعلى الرغم من أنه تجنب ذكر الأسماء، إلا أن ما يعنيه كان واضحًا: لقد كان الغرض الأساسي من مصنع كوماموتو هو مساعدة مجموعة سوني في تزويد شركة أبل بأجهزة استشعار الصور المتقدمة.
تمتلك شركة Sony Semiconductor Solutions مصنعها الخاص في محافظة كوماموتو، والذي ينتج مستشعرات صور متقدمة تُستخدم في كاميرات iPhone. وتشتمل مستشعرات الصور هذه على شرائح منطقية توفرها شركة TSMC، ويبدو أن شركة أبل أرادت من الشركة أن تنتج الرقائق في كوماموتو كوسيلة لتعزيز مرونة سلسلة التوريد. جدير بالذكر أن أبل تعد أكبر عملاء TSMC، حيث تمثل حوالي 20% من مبيعاتها السنوية.
ويساعد هذا في تفسير سبب قيام شركة TSMC بإطلاق شركة اليابان لتصنيع أشباه الموصلات المتقدمة (JASM)، مع شركة سوني كمساهم أقلية، ولماذا استهدفت خطة الإنتاج الأولية الخاصة بها الرقائق المنطقية ذات عقدة 22 نانومتر و28 نانومتر الأكثر ملاءمة للتثبيت في مستشعرات الصور من سوني. كانت عقد المعالجة هذه موجودة منذ عقد من الزمن على الأقل، وكان البعض في اليابان مستاءين عندما سمعوا أن أول مصنع ياباني تابع لشركة TSMC لن ينتج المزيد من الرقائق المتطورة. لكن في فبراير/ شباط 2022، انضمت شركة دنسو لصناعة قطع غيار السيارات إلى الشراكة، وأعلنت JASM أن المصنع سيستخدم أيضًا تقنية 12 نانومتر و16 نانومتر لإنتاج أشباه الموصلات الموجهة لسوق السيارات.
دعم سخي من اليابان وحلفائها
ومع ذلك، لماذا تعلن شركة TSMC عن خطط لإنشاء مصنع ياباني ثانٍ قبل حتى بدء تشغيل المصنع الأول؟ يمكن الإجابة على هذا السؤال من خلال التصريحات التي أدلى بها رئيس TSMC مارك ليو في حفل الافتتاح الذي أقيم في 24 فبراير/ شباط. فبعد أن شكر الحكومة اليابانية، ومحافظة كوماموتو، وشركة سوني، والمستثمرين الآخرين، أعرب ليو عن امتنانه العميق لشركة كاجيما، المقاول العام المسؤول عن بناء المصنع. وتحت إشراف كاجيما، سارت أعمال بناء المجمع بسلاسة وتم الانتهاء منها قبل نهاية عام 2023، مما أتاح لشركة TSMC وقتًا كافيًا لإطلاق عملية الإنتاج بحلول نهاية عام 2024، كما هو مقرر.
والآن، لنقارن بين ما سبق وبين المشاكل التي تعاني منها خطط TSMC في أريزونا. ففي يوليو/ تموز 2023، بعد أشهر من المفاوضات مع النقابات العمالية المحلية، أعلنت TSMC أن العمليات في المصنع الأول، الذي كان من المقرر أن يبدأ تشغيله في وقت ما من عام 2024، لن تبدأ حتى العام التالي. واضطرت الشركة أيضًا إلى تأجيل بدء التشغيل المخطط له للمصنع الثاني من عام 2026 إلى عام 2027 أو حتى 2028. ومثل هذا التأخير مكلف للغاية، ذلك أن بناء مصنع جديد لأشباه الموصلات هو أمر مكلف للغاية، ويحرص المصنعون دائمًا على البدء في استرداد استثماراتهم في أسرع وقت ممكن. تشير التقارير الواردة من تايوان إلى أن كارثة أريزونا قد تكون وراء الإعلان الذي تم في ديسمبر/ كانون الأول الماضي عن نية الرئيس ليو التنحي في يونيو/ حزيران. ونظراً لقوة النقابات العمالية في ألمانيا، فإن مصنع دريسدن قد يواجه مشاكل مماثلة.
وقد عُرضت على شركة TSMC حوافز سخية من قبل الولايات المتحدة وأوروبا واليابان، واستفادت منها. ولكن لا بد أن الشركة أدركت الآن أن اليابان هي أفضل مكان لتصنيع أشباه الموصلات. سيستخدم مصنع كوماموتو الثاني التابع لشركة JASM، والذي تم الإعلان عنه رسميًا في 6 فبراير/ شباط، تقنية معالجة 6 نانومتر لإنتاج أشباه الموصلات المتطورة المستخدمة في أحدث تطبيقات الاتصالات والذكاء الاصطناعي. إن سوق هذه الرقائق المتقدمة للغاية صغير نسبيًا في اليابان، مما يشير إلى أن مصنع كوماموتو الثاني سيلعب دورًا أكبر في السوق العالمية.
وفي حفل الافتتاح في شهر فبراير/شباط، أكد موريس تشانغ على اعتقاده بأن مصنع كوماموتو من شأنه أن يطلق ”نهضة صناعة أشباه الموصلات في اليابان“. مما لا شك فيه أن تشانغ يقول لليابان ما تريد سماعه لا سيما بعد ما قدمته من دعم بلغ 1,2 تريليون ين ياباني. TSMC هي شركة وأولويتها الأساسية هي تعظيم أرباحها، وليس تغذية نهضة صناعة الرقائق اليابانية. ولكن مع الفهم الواضح لتسلسل الأحداث التي جلبت صانعي الرقائق التايوانيين إلى هذه الشواطئ، فإن أصحاب المصلحة اليابانيين لديهم فرصة جيدة لبناء علاقة مربحة للجانبين.