غضب شعبي
كانت آخر فضيحة سياسية هزت الرأي العام الياباني هي قيام فصائل في الحزب الليبرالي الديمقراطي الحاكم بجمع الأموال وتوزيعها دون الإبلاغ عنها. لكن ما أثار استغراب الكثيرين في هذه القضية هي الطريقة التي تناول بها القادة السياسيون في البلاد، من الأحزاب الحاكمة والمعارضة على حد سواء، مفهوم مساءلة المتورطين في مثل هذا النوع من الفضائح.
لكن ما هو وجه الغرابة؟ بادئ ذي بدء، يعد جمع هذه الأموال دون الإبلاغ عنها عملاً غير قانوني يتعارض مع قانون مراقبة الأموال السياسية. وحتى لو قبلنا بالحجة القائلة بأن المسؤولية القانونية عن هذه الجريمة لا تقع على عاتق أعضاء البرلمان أنفسهم، بل على عاتق موظفيهم القائمين على أحداث جمع التبرعات، فمن الواضح أن الإجراء برمته يتعارض مع نص القانون وروحه.
وعندما يكون رد فعلنا على انتشار أخبار هذه الجريمة هو المطالبة بمعرفة سبب ارتكابها، أو كيفية استخدام الأموال المكتسبة بطرق غير مشروعة، فإن الأمر يبدو وكأننا نطلب من اللص نفسه أن يخبرنا بكل ما فعله. لكن مربط الفرس هنا ليست محاسبة المجرمين، بل نوع العقاب الذي سينزل بهم، ومدى صدقهم في التفكر فيما اقترفت أيديهم، وما سيقولونه ويفعلونه للتكفير عن أخطائهم.
لقد شهدنا أخيراً قيام الحزب الليبرالي الديمقراطي بمعاقبة بعض الأحزاب المتورطة في الفضيحة، ولكن لم يتم تسليط الضوء بشكل كافٍ على المسار التي تم من خلاله إنشاء عملية التمويل غير المشروع هذا، ولا على الأشخاص المسؤولين عن صياغتها.
دروس من التاريخ
اليوم حان الوقت لكي تلقي اليابان نظرة فاحصة على العمليات التي يتم من خلالها اتخاذ قراراتها السياسية. وفي هذا الصدد، جرت مناقشة هامةفي إبريل/ نيسان 1975 بين ميازاوا كييتشي، وزير خارجية اليابان آنذاك، ووزير خارجية الولايات المتحدة هنري كيسنجر.
قال كيسنجر: ”يجب أن أقول لك إن عملية صنع القرار في اليابان تبهرني تمامًا“، واستمر في شرح الفرق الرئيسي بين عمليات صنع القرار في اليابان والولايات المتحدة. لا تتمتع اليابان بوجود أفراد قادرين على اتخاذ قرارات جريئة بأنفسهم ومن ثم تحمل مسؤوليتها، ”في اليابان، يتعين عليك اتخاذ القرارات من الألف إلى الياء مروراً بمسار طويل يتكون من أشخاص عدة.“
وردًا على ذلك، أشار ميازاوا إلى أن القرارات السياسية، لا سيما المهمة منها، لا يتخذها أفراد في اليابان، حيث قال ”من الممكن جداً في اليابان الخروج بقرارات جديدة، بل وحتى جريئة، لكن القيادة لا تصدرها دون دراسة مستفيضة وعلى أساس دقيق“.
والواقع أن عملية صنع القرار في اليابان تؤكد على أهمية إرساء القواعد، والتشاور الدقيق، وإشراك كل الجهات الفاعلة على نطاق واسع. بالنظر إلى التاريخ، نجد أن القرار السياسي الأكثر أهمية ربما كان ذلك الذي تم اتخاذه في فترة ما بعد الحرب، وهو تحرك رئيس الوزراء تاناكا كاكوي عام 1972 لتطبيع العلاقات الدبلوماسية مع جمهورية الصين الشعبية، حيث جلب تاناكا أحد زعماء المعارضة إلى المجلس، وقام باستمالة تاكيري يوشيكاتسو رئيس حزب كوميتو للعب دور رئيسي من خلال سفره إلى بكين قبل محادثات التطبيع. أيضاً داخل الحزب الليبرالي الديمقراطي الحاكم، تم الاستعانة بالمشرعين المؤيدين لتايوان للذهاب إلى تايبيه، أما المشرعين الودودين لجمهورية الصين الشعبية فقد تم إرسالهم إلى بكين، حيث ساعدوا في إرساء الأساس لهذا القرار بالغ الأهمية. وبمجرد انتهائهم من عملهم، تمكن تاناكا من الذهاب إلى الصين بنفسه في سبتمبر/ أيلول 1972 للتوقيع على البيان المشترك.
كيفية صنع القرار السياسي في اليابان
هذه هي الطريقة اليابانية: التركيز على بناء الإجماع الجماعي، ولعل سلبيات هذه الطريقة تتمثل في طول الوقت الذي يمكن أن يستغرقه إنجاز الأمور، وعدم الوضوح المحيط بالشخص المسؤول عن اتخاذ قرار معين. لكن من ناحية أخرى، نجحت هذه الطريقة في رسم خط فاصل بين الأفراد المعنيين باتخاذ القرار وبين المناصب التي يشغلونها. لأن مسؤولية اتخاذ القرارات لا تقع فقط على عاتق الأفراد الذين يشغلون مناصب مثل رئيس الوزراء، أو الوزير، أو رئيس الحزب، كما أن هيبة تلك المناصب، من الألقاب ومكانة الوزير أو رئيس الوزراء، تكون أقل عرضة للتضرر من أي تداعيات سلبية قد تجلبها تلك القرارات. وبالمقارنة، ففي الدول التي يتم فيها التركيز بشكل أكبر على مسؤولية الأفراد عن القرارات السياسية، قد يؤدي اتخاذ قرار خاطئ إلى تقويض سلطة مناصب رئيسية مثل منصب الرئيس أو رئيس الوزراء.
كما أن نهج بناء الإجماع على الطريقة اليابانية يولي أهمية كبيرة للتفسيرات المقدمة. فعملية تفسير القرار هي وسيلة لإشراك الجهات الفاعلة الأخرى بشكل غير مباشر في عملية صنع القرار، بمعنى المساعدة في تقاسم المسؤولية عن النتيجة النهائية بشكل غير مباشر مع عدد أكبر من الأطراف.
ومع ذلك، لا بد من الاعتراف بأنه على الرغم من أن هذا النوع من النهج لصياغة الإجماع قد يكون مثاليًا عندما تكون السياسة التطلعية على جدول الأعمال، إلا أنه في حالات مثل فضيحة الأموال غير المشروعة الحالية، أي عندما تتعلق القرارات بـ ”الجانب المظلم“ من الشؤون السياسية، فقد يؤدي هذا النهج إلى إخفاء الأمور التي يجب إظهارها للعلن. من المؤكد أنه أمر جيد أن يتم تعديل قانون مراقبة الأموال السياسية، ولكن يجب علينا هنا أن نحذر من احتمال أن يحتفظ السياسيون الأفراد، الذين يختبئون في زخم الجهود الجماعية المبذولة لصياغة القانون الجديد، بمواقفهم الأخلاقية المتساهلة لترك ثغرات لأنفسهم من أجل استغلالها عند اللزوم.
هذه هي المقالة الأولى في ”وجهة نظر“، وهي سلسلة جديدة من مقالات الرأي التي صاغها فريق مكون من ثلاثة كتّاب يعملون بالتناوب. ونأمل أن ننشر أفكارهم حول الشؤون المحلية والدولية والثقافة والتاريخ وغير ذلك بشكل منتظم.